مشاركة مميزة

قصة البحر | فجر النساء الثلاث 🌤️- خواطر ولحظات وعي

  قصة البحر | فجر النساء الثلاث 🌤️ قصة البحر | فجر النساء الثلاث 🌤️ كان البحر ساكنًا على غير عادته، كأنه ينتظر شيئًا لا يعرفه. النسيم بارد، والسماء ما زالت تمسح بقايا الليل عن وجهها، كأنها أمٌّ تُعدّ ابنها الصغير ليخرج إلى يومٍ جديد. ذلك الوقت من الفجر له خصوصية لا يشاركها أحد. لا هو ليلٌ ولا نهار، بل مساحة بين الحلم واليقظة، بين ما حدث بالأمس وما سيبدأ بعد قليل. وفي تلك المساحة تحديدًا، ظهرت ثلاث نساءٍ يمشين بخطواتٍ متقاربة، كأنهن يخشين أن يوقظن المدينة من نومها. صوت نعالهن على الممشى اختلط بخفةٍ بصوت الموج. كان المشهد بسيطًا، لكنه يحمل شيئًا من السحر. ثلاث ظلالٍ أنثويةٍ تتحرك ببطءٍ في الفجر، تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل في لقطةٍ واحدة. جلسن على المقعد الحجري المطل على البحر، تبادلْن نظراتٍ مليئةً بحنانٍ مألوف، ثم تعانقن كما لو أن كلّ واحدةٍ منهن تودّع الليلة الأخيرة من عمرها. ضحكن ضحكةً طويلة، ضحكةً صادقةً كأنها استراحة من كل تعبٍ مضى، ضحكةً تشبه تنفّس الروح بعد صبرٍ طويل. كان في جلستهن مزيج غريب من الإنجاز والحرية والمسؤولية، كأن الحياة توزّعت بينهن بعدلٍ تام....

المرأة التي تقرأ وحدها - خواطر لحظات وعي

المرأة التي تقرأ وحدها

المرأة التي تقرأ وحدها
المرأة التي تقرأ وحدها

كعادتي كل صباح، أخرج إلى الشارع المبلل بندى الفجر لأمارس رياضة المشي. الطبيب نصحني بالحركة لتخفيف آثار الخمول الذي يهدد الجسد حين يسكن أكثر مما ينبغي. لم أكن أحب هذه العادة في البداية، كنت أراها نوعاً من الواجب الصحي الباهت، لكن شيئاً في تلك الطرقات تغيّر حين بدأت ألاحظ التفاصيل الصغيرة: رائحة القهوة التي تهرب من أحد النوافذ، صوت العصافير وهي تراجع لحنها الأول، والمدينة وهي تفك عقد النوم عن أهدابها ببطء.

في كل مرة أسير فيها نحو الحديقة الصغيرة القريبة من بيتي، أراها. امرأة في أواخر العمر، شعرها رمادي كأنه تذكّر البرد القديم، تجلس على المقعد ذاته كل يوم، وفي يدها كتاب. ليست مجرد قراءة عابرة، بل غوص حقيقي في عالم آخر. وجهها هادئ، عيناها تتابعان السطور كمن يتحدث إلى صديقٍ قديم يعرفه أكثر من نفسه. لم تكن ترفع رأسها حين يمر أحد، وكأن العالم حولها أصبح مشوشاً، لا يعنيها إلا ما تقرأ.

في البداية ظننت أنها مثلي، تحاول ملء فراغ الصباح، أو تهرب من الوحدة عبر الكتب. لكن بعد أيام من مراقبتها، اكتشفت أنها لا تهرب، بل تعود. كانت تقرأ كمن يعود إلى بيته، إلى عالمٍ يشبهه. كل حرف تقرأه يعيد ترتيب فوضاها، وكل صفحة تُقلب ببطء تشبه زفرة استراحة من ثقل العالم.

بدأت أتأملها أكثر مما أنظر إلى الطريق أمامي. كنت أتعجب من صبرها، من جلستها الثابتة، من تلك الابتسامة الصغيرة التي تظهر على وجهها حين تقرأ سطراً يبدو أنه لامس شيئاً في ذاكرتها. وكنت أقول في نفسي: كم من الحكايات تعيشها هذه المرأة دون أن تتحرك من مكانها؟ كم من الأشخاص دخلوا حياتها عبر الورق وغادروها حين أغلقت الصفحة الأخيرة؟

يوماً ما جمعت شجاعتي ومررت قريباً منها بما يكفي لأرى عنوان الكتاب. لم أستطع قراءته، لكنني لاحظت أنه قديم، أطرافه مهترئة، والصفحات مائلة للصفار كأنها شهدت أزمنة كثيرة. أدركت أن هذا الكتاب ليس مجرد رفيق صباحي، بل شاهد عمرٍ بأكمله. ربما تقرأه للمرة العاشرة، وربما لم تنتهِ منه أبداً لأنها لا تريد أن تفعل.

شيئاً فشيئاً، أصبحت تلك المرأة جزءاً من روتيني مثل خطواتي وعدّاتي. أحياناً لا أراها فأشعر بأن الصباح ناقص. تعلمت منها درساً غريباً: أن القراءة ليست هروباً من الواقع كما كنت أظن، بل طريقة مختلفة لمواجهته. من يقرأ لا يهرب من العالم، بل يفهمه على نحو أعمق. ومن يجلس مع كتابٍ في عزلةٍ لا يعيش وحده، بل يعيش مع آلاف الأرواح التي تركت كلماتها لتؤنسه.

بعد فترة، لاحظت أن حركتي أثناء المشي صارت أخف، روحي أنشط، ليس بسبب الرياضة فحسب، بل بسبب ما كان يزرعه مشهدها فيّ من سكينة. كانت تجلس بثباتٍ يُشبه الحكمة، وكأنها تقول للعالم: لا بأس، دعوه يمضي، فثمة ما هو أعمق من الركض خلف الأيام.

وذات صباح، حين كنت أمرّ كعادتي، لم أجدها. بقي المقعد فارغاً، عليه بقايا ورقة شجر صفراء، وكأن الطبيعة تركت أثراً نيابةً عنها. شعرت بشيءٍ غامضٍ يشبه الحنين، وكأن غيابها فضح حقيقة وجودها في حياتي. لم تكن تعرفني، لكنّها أثّرت فيّ كما لم يفعل كثير ممن عرفتهم عن قرب.

في تلك اللحظة أدركت شيئاً عجيباً: نحن لا نحتاج أن نتحدث مع الناس كي نأخذ منهم أثراً، أحياناً يكفينا أن نراهم يعيشون بصدقٍ، أن نشاهدهم في صمتهم، في طريقتهم الخاصة في البقاء. تلك المرأة علمتني أن الثبات نوع من الشجاعة، وأن العزلة ليست دائماً مرادفاً للوحدة، بل أحياناً تكون ملاذاً للروح لتتحدث مع نفسها بعيداً عن ضجيج العالم.

منذ ذلك اليوم، كلما خرجت للمشي، أبدأ ببطء أكثر. لم تعد المسافة هي الهدف، بل الحالة. أمشي وأنا أفكر كم من الناس حولنا يحملون قصصاً خفية، كم من الأرواح تلتجئ إلى زوايا صغيرة لتستعيد أنفاسها. وربما، في مكان آخر، يجلس أحدهم الآن على مقعدٍ آخر، في صباحٍ يشبه صباحي، يقرأ كتاباً ويجد فيه عالماً أكثر رحمة من الواقع.

عدت إلى البيت ذلك اليوم، فتحت كتاباً قديماً كنت قد تركته منذ شهور، وجلست قرب النافذة وبدأت أقرأ. لأول مرة شعرت أن القراءة ليست هواية ولا عادة، بل صلاة صامتة. الكلمات حين تُقرأ بصدق، تتحول إلى دواء، تلمّ شتات القلب، وتعيد ترتيب أفكارنا كما لو كانت أمّاً تسرّح شعر طفلها.

المرأة التي كانت تجلس على المقعد لم تعد هناك، لكنّها صارت فكرة في رأسي. كلما شعرت بثقل الأيام أو ضجيجها، أتخيلها هناك، بشعرها الفضي وكتابها العتيق، أسمع تقليب صفحاتها في خيالي كأنها أنفاس هدوءٍ قديم.

تعلمت منها أن الحركة لا تشفي الجسد فقط، بل الروح أيضاً؛ وأن القراءة ليست عزلة، بل شكل من أشكال الحياة؛ وأن الإنسان لا يكبر حين تتعب قدماه، بل حين يتوقف عن البحث عمّا يروي قلبه.

تعليقات