ما بين الحنين والغياب
الحنين كلمة صغيرة، لكنها تحمل في طياتها أثقل ما يمكن أن يعيشه قلب إنسان. الشوق ليس مجرّد رغبة في لقاء، بل هو وجع ناعم يتسرّب إلى الروح في صمت، يملأ العيون بالدمع، ويجعل القلب يخفق على إيقاع ذكريات بعيدة.
كلّما جلستُ وحدي، شعرت أنّ ثمة فراغاً يحيط بي، كأنّ الغياب صار كياناً يسكن معي. الغياب ليس مجرد غياب الجسد، بل غياب الروح التي ألفتها، الصوت الذي كنت أستند عليه، والملامح التي كانت تضيء أيامي. وما أقسى أن نشتاق لمن لا نعلم متى نلقاه، أو إن كنّا سنلقاه أصلاً.
الاشتياق يعلّمنا أن الزمن لا يرحم. يمشي بخطوات ثابتة، لا يلتفت لنا ولا يخفّف سرعته لأجل قلوبنا المرهقة. نمشي معه مجبرين، فيما أرواحنا تظلّ عالقة عند محطة مضت. نرى الآخرين يضحكون ويعيشون حاضرهم، بينما نحن نحمل حاضرنا مثقلاً بماضٍ لم يكتمل.
كنتُ أظن أنّي قوية، وأنّ الوحدة تعلّمني الصمود. لكنّي أدركت أنّ القوة لا تعني غياب الدموع، بل تعني أن أبكي في الليل، ثم أنهض في الصباح وكأنّ شيئاً لم يكن. القوّة هي أن أحتفظ بابتسامة هادئة على وجهي، فيما قلبي يصرخ من الداخل.
أحياناً، لا أشتاق إلى الشخص ذاته، بل إلى نفسي التي كنتها وأنا معه. أشتاق إلى تلك الفتاة التي كانت ترى الدنيا وردية، إلى الضحكة التي كانت تخرج بلا حساب، إلى الأمان الذي كان يغمرني لمجرد وجوده بقربي. كأنني حين أفتقده، أفتقد جزءاً مني أنا، لا يمكن أن يعود إلا معه.
الشوق يا رفيق الغياب، نار باردة، تؤلم ولا تحرق، تُميت ولا تُفني. هو أشبه بجرح مفتوح، يلتئم قليلاً، ثم يفيض مع أوّل ذكرى، أو أوّل أغنية، أو أوّل صورة تمرّ أمامي بلا استئذان.
كم مرّة جلستُ عند نافذتي، أراقب المطر وهو يطرق الزجاج، وأتخيّل أن كل قطرة تحمل رسالة منه، أو تحمل صوته البعيد. كم مرّة بحثتُ عن وجهه في ملامح الغرباء، وعن صوته في زحمة الأصوات، وعن حضوره في تفاصيل الحياة اليومية.
لكنّي تعلمت، مع الوقت، أنّ الاشتياق لا ينتهي. هو مثل ظلّنا، قد يبتعد أحياناً حين تسطع شمس الانشغال، لكنه لا يزول. يرافقنا في كل خطوة، ينام معنا، ويستيقظ معنا، حتى لو تجاهلناه أو حاولنا الهرب منه.
لقد أدركت أن الحياة، رغم قسوتها، لا تتوقف على أحد. هي تمضي بنا أو من دوننا، ونحن من نختار: هل نعيش أسرى الماضي، أم نحمل الماضي كوشم على الروح ونمضي؟
أنا اخترت أن أمضي. اخترت أن أبتسم، ولو كانت ابتسامة تحمل خلفها ألف تنهيدة. اخترت أن أزرع في طريقي وروداً جديدة، حتى لو كانت ذابلة أحياناً. لأنني لا أريد أن أبقى واقفة عند محطة الرحيل، فيما القطار يمضي ولا يلتفت.
أحياناً أبتسم بين دموعي، وأقول لنفسي: لولا أنني عشتُ ذاك الحب، لما عرفت معنى الشوق. ولولا أنني افتقدتُ، لما عرفت قيمة اللقاء. ولولا أنني كسرت، لما تعلمت كيف أنهض.
الشوق يصنع منا نسخاً جديدة، أنضج، أعمق، وأقوى. يجعلنا نفهم معنى التفاصيل الصغيرة: فنجان قهوة وحدي، كتاب قديم، أغنية تباغتني فجراً. كلها تصبح أكثر قيمة، لأنّها تملأ فجوة الغياب.
أحياناً أعتقد أنّ الشوق رسالة خفيّة من الله، ليعلّمنا أن لا نتعلق بأحد أكثر من اللازم. أن نفهم أن كل شيء زائل، وأن الباقي الوحيد هو وجهه الكريم. ومع ذلك، يظل القلب إنسانياً، يظل يضعف، يظل يحنّ، ويظل يشتاق.
يا أيها الغائب الحاضر في تفاصيل حياتي، يا من علّمتني أن الحب ليس دائماً أبدياً، لكن أثره أبدي. أشتاق إليك، وأعلم أن الاشتياق لن ينتهي. لكنني أيضاً أعلم أنني سأعيش، سأكمل، وسأبتسم. لأن الحياة لا تنتظر أحداً، ولا ترحم من يقف عند عتبة الماضي.
ربما أراك في حلم، ربما تجمعنا صدفة بعد سنوات، وربما لا نلتقي أبداً. لكنّك ستبقى، رغم كل شيء، جزءاً من حكايتي، جزءاً من نفسي التي لا أستطيع إنكارها.
والآن، حين أنظر في المرآة، أرى امرأة مختلفة. امرأة جُرحت، لكنها لم تنكسر. امرأة اشتاقت، لكنها تعلّمت كيف تحوّل شوقها إلى طاقة. امرأة بكت، لكنها لم تفقد ابتسامتها.
لقد أدركت أنّ الاشتياق ليس ضعفاً، بل هو امتداد للحب. وأنّ الفقد ليس نهاية، بل بداية لرحلة أخرى مع الذات. وأنّ الوحدة ليست عدواً، بل صديقاً صامتاً يعلّمنا كيف نصغي لأنفسنا.
في النهاية، أقول لنفسي كلما هزّني الحنين: نعم، اشتقت. نعم، افتقدت. لكنني هنا، ما زلت أتنفس، وما زلت أعيش. والحياة، مهما غابت وجوه، لا تتوقف… وأنا لا أتوقف
تعليقات
إرسال تعليق