قصة البحر | الرجل الذي اختار وحدته
كنت أمشي كعادتي في الممشى البحري في الصباح الباكر، الهواء مشبع برائحة الملح، والنسيم يمرّ برفقٍ كأنه يداعب الذاكرة أكثر مما يحرّك الشعر. كان البحر اليوم مختلفًا، مياهه ساكنة إلا من تموّجاتٍ صغيرة تلمع تحت ضوء الشمس الأولى، كأنها أنفاس مخلوقٍ عظيم يستعد ليومٍ جديد. في مثل هذه الساعات، يبدو الممشى كصفحةٍ بيضاء تنتظر أن تُكتب عليها القصص.
 |
| قصة البحر | الرجل الذي اختار وحدته |
كنت أراقب المارة، كلٌّ في عالمه الخاص؛ شاب يركض مستمعًا للموسيقى، امرأة تمشي بتركيزٍ كأنها تحاور نفسها، وصياد يجهّز خيوطه عند الحافة. لكنّ عيناي توقفتا فجأة عند رجلٍ كبير في السن يسير بمحاذاة البحر. لم يكن كغيره من المارة؛ خطواته كانت بطيئة، موزونة، وكأنها نابعة من يقينٍ لا استعجال فيه.
كان يمشي بثباتٍ عجيب، ليس كمن يهرب من الماضي، بل كمن صالحه أخيرًا. ملامحه هادئة، لا تبتسم ولا تنقبض، لكنّ عينيه… تلك العيون الرمادية الغائرة، كانت تحكي الكثير دون أن تنطق. فيها شيء من الحزن، لكن الحزن الذي لم يعد موجعًا، الذي صار جزءًا من السلام، كذكرى تقبلها القلب بعد مقاومةٍ طويلة.
وجهه مجعّد بتفاصيل العمر، كل خطٍّ فيه يشبه سطرًا من روايةٍ طويلة: بعضها عن تعبٍ، وبعضها عن حبٍّ ضاع، وبعضها عن انتظارٍ لم يثمر. لكنه لم يكن يبدو حزينًا، بل كمن اختار أن يترك الحكاية تمضي كما هي، دون اعتراض. كان يمسك بيده عصا خفيفة، يضغط بها على الأرض في كل خطوة، كأنها إيقاعٌ يحافظ به على توازنه، لا جسديًا فقط، بل نفسيًا أيضًا.
تبعته بنظري فترة طويلة. لم يكن ينظر حوله، لا إلى الناس ولا إلى المراكب ولا حتى إلى الطيور، كان ينظر أمامه فحسب، إلى البحر الممتد أمامه بلا نهاية. كأنه وجد في ذلك الأفق مرآةً يرى فيها نفسه القديمة، ذلك الشاب الذي كان يركض في الحياة بكل حماس، الذي أحبّ وخسر، حاول وتعب، ثم أدرك أن الوصول ليس دائمًا انتصارًا، وأن التوقف أحيانًا هو قمة النضج.
تساءلت: هل عاش هذا الرجل قصة حبٍ انتهت بصمتٍ يشبه صمته الآن؟ هل فقد أحدًا عزيزًا ووجد في البحر ملاذًا من الذاكرة؟ هل خذلته الأيام، أم أنه هو من قرر أن ينسحب منها بهدوء؟ لم أجد جوابًا، لكن كل شيء فيه كان يقول إنه اختار وحدته عن رضا، اختارها لا لأنها الخيار الوحيد، بل لأنها صارت الأكثر صدقًا مع نفسه.
الوحدة التي يختارها الإنسان تختلف عن تلك التي تُفرض عليه. الأولى تشبه خلوة الروح بعد ضجيجٍ طويل، والثانية تشبه سجنًا بلا جدران. الرجل الذي أمامي لم يكن سجينًا، بل زاهدًا في الزحام. يبدو كمن جرّب كل أشكال العلاقات، ورأى أن كثيرًا من الناس يحضرون جسدًا ويغيبون روحًا، فآثر أن يمشي وحده، على أن يملأ طريقه بالفراغ.
الناس يهربون من الوحدة لأنها تكشفهم، لكنّه كان يمشي فيها مطمئنًا كمن عاد إلى بيته. كانت الوحدة بالنسبة له وطنًا مؤقتًا أو دائمًا، لا فرق. فربما وجد فيها ما لم يجده في الآخرين: صدقًا بلا تمثيل، وراحة بلا نقاش، وصمتًا لا يخون.
تأملته طويلاً، حتى خُيّل إليّ أن البحر نفسه ينصت له. كل موجةٍ تمرّ بجانبه كانت تنحني قليلًا، كأنها تحييه احترامًا لتجربته الطويلة في الحياة. تذكرت حينها وجوهًا كثيرة مرت بي، أشخاصًا خافوا من البقاء وحدهم فاختاروا صحبةً مزيفة، وأشخاصًا ظنّوا أن الصمت ضعف، فملأوا حياتهم بالضجيج كي لا يسمعوا أنفسهم. أما هذا الرجل، فقد بدا لي كأنه عبر مرحلة الصخب كلها، ووصل إلى النقطة التي لا يحتاج فيها لإثبات شيء لأحد.
مرّت بجانبه فتاة تمشي مسرعة تحمل كوب قهوة وتضحك في هاتفها، توقّف لحظة، نظر إليها بابتسامةٍ صغيرة لم تدم إلا ثانية، ثم واصل طريقه ببطءٍ أشدّ، كأن المشهد ذكّره بشيء بعيد. ربما بابنته، أو بامرأةٍ أحبّها ذات زمن، أو بنفسه حين كان صغيرًا يحمل كوب القهوة نفسه وضحكة الأمل نفسها.
عندما اقتربتُ منه أكثر، سمعت صوته الخافت يهمس بشيءٍ لم أفهمه. ربما كان يتحدث إلى البحر، أو إلى نفسه، أو إلى من غابوا عنه. لكن في صوته لم يكن هناك حزن، بل دفء غريب يشبه حديث الأصدقاء القدامى بعد فراقٍ طويل.
واصلت المشي خلفه دون قصد، كأن حضوره صار إيقاعًا يقود خطاي. كلما رفع عصاه، شعرت أن الأرض نفسها تصغي له. كان يسير بثقةٍ عجيبة رغم بطئه، وفي كل خطوةٍ منه حكمة: أن العمر ليس سرعة، بل معنى. أن الوصول ليس في النهاية، بل في السكينة التي ترافق الطريق.
عندما وصل إلى نهاية الممشى، جلس على أحد المقاعد المطلة على البحر. أخرج من جيبه منديلًا ورقيًا، مسح به العرق عن جبينه، ثم أسند العصا إلى المقعد، وأطلق نظرةً طويلة إلى الأفق. جلس بصمتٍ تام، لكن الصمت في تلك اللحظة لم يكن فراغًا، بل امتلاءً. كأنّ كل ما مرّ به من خيباتٍ وانتصاراتٍ وتفاصيل عاد إليه في صورةٍ واحدة كاملة، وصار بإمكانه أخيرًا أن يقول: "انتهت الرحلة، لكني ما زلت هنا."
جلست على مقعدٍ بعيد أراقبه. الوقت مرّ ببطءٍ غريب، والبحر بدأ يعلو قليلًا، كأن الموج أراد أن يغطي أسراره القديمة. وحين نهض الرجل أخيرًا، أمسك عصاه، ومشى بخطواتٍ أبطأ من ذي قبل، لكنها كانت خطوات مَن عرف الطريق جيدًا.
قلت في نفسي وأنا أتابعه بعيني: بعض الناس لا يُهزمون حين يبقون وحدهم، بل يولدون من جديد. فالوحدة ليست دائمًا فقدًا، أحيانًا هي راحة عقلٍ أنهكه الصخب، وقلوبٍ اختارت السلام بعد الضجيج. الوحدة ليست نهاية، بل بداية حياةٍ بلا تكلّف، يُصبح فيها الإنسان صديق نفسه قبل أن يكون صديقًا لأحد.
مشيت بعدها نحو البحر، غمرتني رائحة الملح من جديد، وشعرت أني فهمت شيئًا لم أكن أفهمه من قبل: أن من يختار وحدته بحرّية، لا يعيشها حزنًا، بل امتنانًا. فهو لا يهرب من الناس، بل يعود إلى ذاته. وفي هذا العالم المزدحم بالأصوات، ربما تكون أجمل لحظةٍ في العمر هي تلك التي تجلس فيها صامتًا… تسمع فيها صوتك الداخلي بوضوح، وتدرك أنك لست بحاجةٍ إلى جمهورٍ لتكون حاضرًا.
🌿💙 #قصص_البحر #صباح_الخير_والسعاده #SouadWriter
تعليقات
إرسال تعليق