قصة البحر | رفقة على الممشى
 |
| قصة البحر | رفقة على الممشى |
كنت أمشي كعادتي في الصباح، والبحر هادئ كأنه يستمع لأنفاسي. نسيمه يمرّ على وجهي برفقٍ يشبه طبطبة الحياة حين تهدأ وتتصالح مع نفسها. الهواء باردٌ قليلاً، لكنه ليس برودةً تُؤذي، بل دفءٌ متخفٍّ في ملامح النسيم، كأنه يقول: “كل شيء بخير”.
الممشى في ذلك الوقت شبه خالٍ من الناس. بعض الرجال يركضون بخطواتٍ سريعة ووجوهٍ جادة، كأنهم يسابقون شيئًا لا يُرى، وبعضهم يجلس على المقاعد الخشبية يراقب البحر في صمتٍ تأمليّ، كلٌّ منهم يحمل همًّا صغيرًا أو كبيرًا يخفيه وراء النظرات البعيدة.
أما أنا، فكنت أراقب التفاصيل الصغيرة. العصافير التي تمرّ مسرعة فوق الموج، والنور الذي يتسلّل من بين الغيوم في خطوطٍ ناعمة، ورائحة القهوة التي جاءت من مقهى قريب لتعلن بدء يومٍ جديد. كل شيء يوحي بالسكينة، لكنّ مشهدًا واحدًا شدّني حتى نسيّت الخطوات والموج والهواء.
كان هناك رجلٌ كبير في السن يجلس على العشب بجانب زوجته. قطعة خبزٍ بينهما، وقارورة ماء، ووجهان مطمئنان كأنهما وُجدا في هذا المكان منذ الأزل. هي تضع طرحتها البيضاء بعنايةٍ فوق شعرها، وهو يرتّب عباءته الخفيفة كلما داعبها النسيم. ضحكة خفيفة خرجت منهما معًا، ضحكة لا تصنعها النكتة بل تصنعها الألفة.
توقّفت عن المشي دون أن أشعر، كأن الزمن هو الذي قرر التوقف ليتفرّج مع البحر. كانت تنظر إليه وكأنها تحفظ ملامحه عن ظهر قلب، تتأمل تجاعيد وجهه كما لو أنها فصول روايةٍ قرأتها مرارًا ولم تملّ منها يومًا. وهو يبادلها نظرةً هادئة مطمئنة، نظرة لا تحتاج إلى تفسير أو تعليق. بينهما انسجام غريب، لا فيه مجاملة ولا تكلّف، كأنهما أنهيا حروب الحياة، ووصلا إلى تلك المرحلة النادرة التي يصبح فيها الصمت أصدق من الكلام.
كانت أيديهم لا تلتقي بالضرورة، لكنّ الهواء نفسه كان يمرّ بينهما كرسالة ودّ متجددة. حتى طريقة جلوسهما بدت كأنها لغة متفاهم عليها: هو يترك لها مساحة الضوء، وهي تترك له راحة الظل. مزيج دقيق من التفاهم الصامت والعشرة الطويلة التي تصقل الحدة وتُبقي الرفق.
ابتسمت دون وعي. قلت في نفسي: ليس كل حبٍّ يحتاج إلى شغفٍ متقد. بعض الحبّ يشبه هذا المشهد البسيط، قطعة خبزٍ مشتركة وضحكةٌ في الصباح، ونظرة تقول: "مررنا بكل شيء، وبقينا".
البحر خلفي كان يصفّق بموجه، وكأنّه يبارك هذا المشهد كما يبارك الطبيعة حين تجد اتزانها. كنت أسمع همس الماء يضرب الصخور بإيقاعٍ رتيبٍ يشبه نبض القلب حين يهدأ بعد تعبٍ طويل. كل شيء بدا في مكانه الصحيح: السماء، الموج، النخيل، وحتى خطوات المارة القليلة.
تساءلت وأنا أراقبهما: كم مرة مرّا بخلافات؟ كم مرة رفع أحدهما صوته؟ كم مرة قررا الصمت بدل العتاب؟ كم مرة تغاضى أحدهما ليبقى الآخر مرتاحًا؟ تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يراها الناس هي ما تصنع الحب الحقيقي. ليس الحب وردةً حمراء في مناسبة، بل كوب شايٍ يُقدّم بصمت حين تكون متعبًا. ليس رسالةً طويلة على الهاتف، بل صمتٌ يعرف ماذا تقول لو نطقت.
أدركت حينها أن الحب لا يُثبت بالوعود ولا بالهدايا، بل بالقدرة على البقاء رغم التعب، وبالرفق حين تبهت التفاصيل، وبالصبر حين تمرّ الأيام الثقيلة دون أن يفقد القلب إيمانه بالرفقة. الحب ليس معركةً تُكسب، بل رحلةٌ تُكمل، بخطى متعثّرة أحيانًا، لكن في الاتجاه نفسه.
الزوجان أمامي كانا يختصران هذا المعنى كله. هما يشبهان آخر من تبقّى من جيلٍ آمن بأن العلاقة ليست ساحة فوز أو خسارة، بل مأوى اثنين أنهكتهما الحياة فقرّرا أن يتكئا على بعضهما بدل أن يسقطا. لم تكن نظراتهما تلك نظرات حبٍّ كما يظنّ الصغار، بل نظرات رفقةٍ ناضجة، فيها عتاب قديم ذاب مع الأيام، وفيها امتنان صامت لأن أحدهما لم يملّ من الآخر رغم التكرار.
استندت إلى السور الحديدي الذي يفصل الممشى عن البحر، نظرت إلى الموج وهو يرتفع وينخفض في دورةٍ لا تنتهي. قلت في نفسي: ربما هذا هو سرّ الارتباط الطويل، أن تعرف متى تنخفض لتسمح للآخر بالارتفاع، ومتى تتراجع خطوة لتبقي الإيقاع متوازنًا. كل علاقة تحتاج إلى إيقاع، إلى موسيقى خفية تحفظ توازنها وسط ضجيج العالم.
مرّت بجانبي امرأةٌ شابة تمسك بيد زوجها، تحدّثه بصوتٍ منخفضٍ فيه عتاب، وهو ينظر بعيدًا كأنه يبحث عن حجة في الأفق. ابتسمت بخفّة وقلت: “ربما بعد ثلاثين سنة سيجلسان على العشب مثل تلكما الزوجين، ويضحكان على عتابهما القديم.” هكذا تصير القصص، تبدأ بتوتر وتنتهي بطمأنينة، فمن أحبّ بصدق لا يهرب من التعب، بل يتعلّم كيف يتجاوزه.
عدت إلى المشي، لكن خطواتي هذه المرة كانت أبطأ. كنت أفكر في معنى “الاستمرار”. الاستمرار لا يعني أن كل شيء جميل، بل أن هناك من اختار البقاء حتى في اللحظات التي لم تعد جميلة. الحب الذي لا يرحل حين تسوء الأيام هو وحده الذي يستحق أن يُسمّى حبًا.
حين وصلت إلى نهاية الممشى، جلست على المقعد الأخير المطلّ على البحر. أغمضت عيني، وتركت النسيم يمرّ على وجهي، وشعرت بأنني فهمت درسًا لم يُكتب في أي كتاب. أن أجمل ما في الحياة ليس أن تجد من يشبهك، بل من يتقبلك حين تختلف معه، من يعرف ضعفك ولا يستغلّه، ومن يرى تعبك فيصمت احترامًا له، لا مللًا منه.
فتحت عينيّ، والزوجان ما زالا هناك، يمسحان فتات الخبز، ويقومان ببطءٍ شديد، يساعدها على الوقوف، فتضحك وتقول له شيئًا لم أسمعه، لكنني رأيت في ضحكتها نفس الامتنان الذي أحسست به قبل قليل. مشيا معًا بخطواتٍ بطيئة متناسقة، كأنهما يقولان: “تعلمنا الإيقاع من البحر.”
قلت في نفسي وأنا أراقبهما يبتعدان: لكلّ من بدأ حياته الزوجية… لا تبحثوا عن الكمال. الكمال متعب، والوهم أثقل من الخلاف. ابحثوا عن الهدوء، عن يدٍ تبقى معكم في الصبح والمساء، عن قلبٍ يفهم أن الرفقة والتغاضي أجمل أشكال الحب. لا تجعلوا الزعل يغلب، ولا الكبرياء يحجبكم عن الاعتذار. فالحياة قصيرة، والبحر لا يتذكّر الأمواج الغاضبة بعد أن تهدأ.
ثم نظرت إلى البحر للمرة الأخيرة قبل أن أعود أدراجي، فوجدته ساكنًا، صافياً، كأنه يبتسم لي. ربما لأنه يعرف أني فهمت درسه أخيرًا: أن السعادة لا تحتاج إلى صخب، بل إلى روحٍ مطمئنة ورفقةٍ صادقة تمشي بجانبك حتى النهاية. 🌿💙
#قصص_البحر #صباح_الخير_والسعاده #SouadWriter
تعليقات
إرسال تعليق