قصة البحر | الانتظار الأخير ☕🌊
 |
| قصة البحر | الانتظار الأخير ☕🌊 |
كان الصباح مختلفًا. السماء هادئة، والبحر ساكن أكثر من المعتاد، كأن الموج أوقف حركته احترامًا لشيءٍ لم يفهمه بعد. حتى الطيور التي اعتادت التحليق فوق الماء بدت وكأنها تؤجل رحلتها. الجوّ كله يحمل ملامح انتظارٍ غامض، لا يُعرف لمن أو لماذا.
كنت أمشي ببطءٍ على الممشى، أستمتع بصوت خطواتي على الأرض الرطبة بعد ندى الليل، إلى أن لفت انتباهي رجل في الجهة المقابلة ينزل مسرعًا من سيارته. كان في منتصف الخمسين تقريبًا، يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا رماديًا، يحمل في يده كوبين من القهوة الساخنة، ويمسك هاتفه في الأخرى وكأنه يخاف أن يفوّت رسالة أو مكالمة واحدة. في عينيه لهفة مربكة، نظراته تتنقل بين المارة والساعات والبحر، كأن كل دقيقة تمرّ تنقص من عمر شيءٍ ينتظره.
توقّف في منتصف الممشى، نظر يمينًا ويسارًا، ثم تقدّم بخطواتٍ مترددة حتى وصل إلى الطاولات القريبة من الكورنيش. اختار مقعدًا يطلّ مباشرة على البحر، جلس، وضع الكوبين أمامه بعناية شديدة، كأنهما رمزان لشيءٍ أهم من القهوة نفسها، كأن حرارة المشاعر تختبئ في بخار كل كوب.
راقبته من بعيد. كان وجهه متوتّرًا، يحرك أصابعه على الطاولة بطريقةٍ تشي بالقلق، وفي عينيه ارتباك لا يشبه وجوه العابرين الذين يمرّون بلا مواعيد. كل دقيقةٍ كانت تغيّر ملامحه، مرةً يبتسم وكأنه تذكّر شيئًا جميلاً، ومرةً يقطّب حاجبيه، ثم يعود لينظر إلى الطريق الطويل الممتد خلف الممشى، كأنه ينتظر أن تخرج منه معجزة.
أخرج هاتفه مراتٍ كثيرة، ينظر إلى الشاشة، يقلبه بين يديه، ثم يعيده إلى الطاولة. يبدو أنه أرسل رسائل لم تصل، أو وصلت ولم يُجب عليها أحد. أحيانًا يرفع رأسه إلى البحر، ينظر إليه بنظرةٍ فيها رجاء، كأن الموج وحده يملك الجواب. وفي لحظةٍ بدا وكأنه يحاور الزمن نفسه: “هل تأخرتَ عليّ؟ أم تأخرتُ أنا في الفهم؟”
مرت الدقائق ثقيلة كأنها ساعات. كل لحظة انتظارٍ كانت تُضيف سنةً إلى ملامحه. وكنت أشعر أن البحر نفسه يراقب هذا المشهد بصمتٍ يشبه الحزن. الموجة التي اقتربت من الشاطئ توقفت قبل أن تلامسه، كأنها خافت أن تزعجه.
لم يأتِ أحد. ظل الكوبان أمامه كحارسين على وعدٍ لم يُنفّذ. رفع أحدهما ببطءٍ، قرّبه إلى فمه، لكنّه لم يشرب، ثم أعاده مكانه بخيبةٍ واضحة. كانت تلك الحركة الصغيرة كافية لتقول كل شيء: أن الانتظار تحوّل إلى يقينٍ بعدم الحضور.
جلس للحظةٍ طويلةٍ بعدها، يداه مشدودتان على الطاولة، عيناه تتابعان الأفق وكأنه يريد أن يقرأ رسالةً مكتوبة على صفحة البحر. ثم أغمض عينيه قليلًا، كمن يتقبّل الحقيقة أخيرًا: أن لا أحد سيأتي، وأن المواعيد أحيانًا تموت في منتصف الطريق.
بعدها نهض ببطء. حمل الكوبين في يديه، تردد لحظةً قصيرة، ثم أعاد أحدهما إلى السيارة. أما الكوب الآخر، فوضعه على الطاولة بهدوءٍ بالغ، كأنه يترك فيه جزءًا من نفسه. بخار القهوة كان يتصاعد بخجلٍ، تمامًا كما تتصاعد الذكريات حين نحاول دفنها.
أغلق باب سيارته برفقٍ غريب، كأن الصوت وحده يؤلمه، ثم جلس خلف المقود، لكنه لم يشغّل المحرك فورًا. ظلّ يحدّق في الكوب البعيد، في البحر، في الطريق الفارغ، ثم حرّك السيارة ببطءٍ وغادر، وهو ينظر عبر المرآة الخلفية نظرةً طويلة وكأنه يودّع آخر مشهدٍ جميلٍ صدّقه.
توقّف الزمن لوهلةٍ بعد رحيله. الناس واصلوا مشيهم كأن شيئًا لم يحدث، لكن البحر بدا ساكنًا أكثر من أي وقتٍ مضى، حتى الموج خفّ صوته، كأنه يشارك الرجل خيبته. بقي الكوب الثاني هناك… دافئًا من أثر الانتظار، لا من حرارة القهوة. ورغم بساطته، صار جزءًا من المشهد، رمزًا صغيرًا لوفاءٍ لم يُقدَّر.
جلست على المقعد الذي يبعد عنه بمسافةٍ قصيرة. نظرت إلى الكوب، تخيلت وجه من كان ينتظره، ربما امرأة أحبها منذ زمنٍ طويل، ربما ابنة غابت عنه ثم وعدته بلقاء، وربما صديقٌ قديم أراد أن يصالحه بعد قطيعة. القصص كثيرة، لكن النهاية واحدة: الانتظار وحده هو الذي حضر.
الناس يظنون أن أقسى ما في الحياة هو الفقد، لكن الفقد أهون من الانتظار الذي لا يُثمر. الفقد يُنهي الحكاية، أما الانتظار فيُبقيها معلّقة بين الأمل والخذلان. وما أصعب أن تظلّ متعلّقًا ببابٍ تعرف أنه لن يُفتح.
تذكّرت لحظاتٍ كثيرة انتظرتُ فيها أنا أيضًا. انتظرت رسالةً، واعتذارًا، وعودةً لم تأتِ. وربما لهذا شعرت أني أعرف الرجل رغم أني لم أره من قبل. كلّنا ننتظر شيئًا ما في حياتنا: شخصًا يعود، حلمًا يتحقق، أو حتى لحظة سلامٍ داخلي نؤجلها مرارًا. لكن البحر يعلّمنا دائمًا أن لا شيء يبقى على حاله، حتى الوجع يهدأ، وحتى الانتظار ينتهي… إن لم باللقاء، فباليقين.
نظرت مرةً أخيرة إلى الكوب الباقي على الطاولة، بدأ بخاره يتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى صار الهواء من حوله ساكنًا كأنه يودّعه هو الآخر. اقتربت منه ببطء، لمست الكوب، كان لا يزال دافئًا قليلًا، ورائحة القهوة تختلط برائحة البحر، كأنها مزيج من الذكريات والملح والوداع.
في تلك اللحظة فهمت أن البحر ليس مجرد مكانٍ للراحة، بل شاهدٌ صامت على قصصٍ لا تُروى. كم من وعودٍ سُكبت على رماله، وكم من دموعٍ جفّت قبل أن تصل إليه. لكنه رغم كل ذلك يبقى يحتضن الجميع، من ينتظر، ومن رحل، ومن لم يأتِ أبدًا.
مشيت بعدها ببطءٍ، وكنت أشعر أن كل موجةٍ تهمس لي بحكمةٍ صغيرة: “بعض اللقاءات لا تكتمل، وبعض الوعود تموت في منتصف الطريق، لكن الأشد وجعًا أن تبقى وفيًّا في وقتٍ نسي فيه الآخر موعده.”
وفي الأفق، كان البحر يلمع تحت شمس الصباح، يشبه صفحة حياةٍ جديدة، تغسل كل ما مضى وتبدأ من جديد. وربما في مكانٍ آخر، كان الرجل يقود سيارته بصمتٍ، وفي المقعد المجاور، يجلس فراغٌ له رائحة قهوةٍ لم تُشرب. 💔🌿
#قصص_البحر #صباح_الأشياء_المُشرقة #SouadWriter
تعليقات
إرسال تعليق