الوحدة ✦
الوحدة، كلمة تحمل في طياتها رهبة للبعض وسكينة لآخرين. نخشاها في البداية، نهرب منها كأنها وحش يتربص بنا في العتمة، لكن حين نجلس معها طويلاً، نكتشف أنها ليست عدواً كما توهّمنا، بل قد تكون صديقة مخلصة تكشف لنا وجهاً جديداً للحياة.
كنت أخاف الوحدة كما يخاف الطفل من الظلام. كنت أظن أن وجود الناس حولي هو ما يعطيني المعنى، وأن غياب الأصوات سيجعلني فارغة. لكن مع الوقت، ومع التجارب التي أخذت مني من أحببت، وجدت نفسي مرغمة على الجلوس مع الوحدة. وشيئاً فشيئاً، تغيّرت نظرتي إليها.
الوحدة ليست فراغاً، بل مساحة. مساحة نسمع فيها صوتنا الداخلي بوضوح. ففي صخب الحياة، تضيع أصواتنا الحقيقية بين ضجيج الآخرين. لكن حين نجلس وحدنا، نصبح قادرين على الإصغاء لما بداخلنا، نسمع هواجسنا، آمالنا، مخاوفنا، وأحلامنا التي طالما تجاهلناها.
الوحدة التي كنت أهرب منها صارت معلمة. علّمتني أنني لست بحاجة دائمة لوجود الآخرين لأشعر أنني كاملة. علّمتني أنني أستطيع أن أضحك بصوت عالٍ وأنا وحدي، أن أستمتع بفنجان قهوة دون أن يشاركني أحد، أن أقرأ كتاباً وأعيش داخله ساعات دون أن أحتاج لكلمة من الخارج.
أحياناً، الوحدة ليست خياراً، بل قدر. لكنها رغم ذلك، هدية متخفية. ففيها نكتشف ذواتنا الحقيقية. نكتشف أن لدينا القدرة على الوقوف على أقدامنا دون عكاز، أن سعادتنا يمكن أن تولد من داخلنا لا من حولنا.
الوحدة تزرع فينا قوة صامتة. تجعلنا أقل اعتماداً على الآخرين، وأكثر اعتماداً على أنفسنا. تجعلنا نعيد ترتيب علاقتنا بالحياة: لا نسعى وراء الضجيج لنهرب من أنفسنا، بل نصادق أنفسنا ونقبلها كما هي.
في البداية، شعرت أن الوحدة سجني. كنت أعدّ الساعات وأتمنى لو أن أحداً يطرق الباب. لكن مع مرور الأيام، صارت الوحدة ملاذي. صرت أشتاق إليها حين يزدحم المكان، صرت أبحث عنها لأعيد التوازن لروحي.
الوحدة ليست عزلة قاسية، بل عزلة رحيمة إن عرفنا كيف نحتضنها. هي مساحة للتأمل، للتفكر، للكتابة، للإبداع. كثير من أعظم الأفكار وُلدت في لحظات وحدة. وكثير من أعظم القلوب صارت أكثر حكمة لأنها جلست مع وحدتها طويلاً.
حين تخيفنا الوحدة، فذلك لأننا لا نعرف أنفسنا جيداً. وحين نصادقها، نكتشف أن أنفسنا أوسع مما كنا نتصور. نكتشف أننا نملك عوالم كاملة بداخلنا، وأننا لسنا بحاجة إلى ملء الفراغ بأصوات خارجية حتى نشعر أننا أحياء.
لقد تحولت الوحدة من خوف إلى صديقة. صارت تقول لي: “أنا هنا لأمنحك وقتاً مع نفسك، لا لأعاقبك”. وصرت أقول لها: “أهلاً بكِ، فقد صرتِ جزءاً من رحلتي”.
اليوم، لم أعد أخاف أن أبقى وحدي. لم أعد أهرب إلى الضجيج لأغطي على صمتي. بالعكس، صرت أستمتع بصمتي، أجد فيه موسيقى خاصة لا يسمعها غيري. وصرت أعرف أنني إن لم أتصالح مع وحدتي، فلن أتصالح مع العالم.
الوحدة ليست عدواً، بل مرآة. تكشف لنا حقيقتنا بلا أقنعة، وتعيدنا إلى أنفسنا حين نضيع في زحام الحياة. وإن عرفنا كيف نحتضنها، ستصبح صديقة وفية تهمس لنا في كل مرة: “أنتَ كافٍ… حتى وأنت وحدك”
تعليقات
إرسال تعليق