الفقد ✦
الفقد ليس مجرد كلمة، هو زلزال داخلي يهزّ أركان الروح، ويترك خلفه شقوقاً لا تُرمّم بسهولة. كل إنسان على هذه الأرض ذاق طعم الفقد بطريقة أو بأخرى، لكن ما يختلف هو كيف نحمل هذا الطعم في حياتنا، هل نتركه مرّاً يخنقنا، أم نحوله درساً يصنعنا.
حين نفقد شخصاً، لا نفقد حضوره فقط، بل نفقد معه جزءاً من ذواتنا. الذكريات التي جمعَتنا، اللحظات الصغيرة، الكلمات العفوية، كلها تتحول فجأة إلى شريط يعيد نفسه في عقولنا بلا توقف. والفقد قاسٍ، لأنه لا يمنحنا فرصة للتفاوض، لا يقول: “انتظر قليلاً وسأعيده”، بل يرحل بلا رجعة، ويتركنا نتقلب بين الأسى والحنين.
في لحظة الفقد، نشعر أن العالم توقف. الوجوه من حولنا تتحرك، الناس يواصلون حياتهم، الضحكات تتكرر، الأصوات تعلو، لكن داخلنا هناك سكون قاتل. كأن الزمن تآمر علينا، وأخذ منا ما لا يمكن تعويضه.
الفقد يعلمنا أن لا شيء يدوم. يعلمنا أن الحب مهما كان عظيماً، فهو هش أمام سطوة القدر. يعلمنا أن كل ما بين أيدينا مؤقت، وأننا مهما تمسكنا، هناك لحظة لا مفر منها. ومع ذلك، ورغم قسوته، يحمل الفقد وجهاً آخر لا نراه في البداية.
في البداية، هو كالسهم الذي يستقر في القلب، مؤلم، جارح، يشلّنا عن الحركة. لكن مع مرور الوقت، يصبح السهم جزءاً منّا. لا يزول الألم تماماً، لكنه يتحول إلى ندبة، والندبة تذكّرنا أننا نجونا، وأننا أقوى مما ظننا.
أصعب ما في الفقد، ليس غياب الشخص نفسه، بل غياب الأمان الذي كان يمنحه وجوده. كنا نظن أننا نستمد قوتنا من أنفسنا، لكن الحقيقة أننا نستمدها أحياناً من عيون الآخرين، من دفء صوتهم، من بساطة قربهم. وعندما يرحلون، نكتشف أننا عراة أمام الحياة، وأننا مطالبون بأن نبني أماننا من جديد.
الفقد يتركنا في مواجهة قاسية مع أنفسنا. يضعنا أمام مرآة كبيرة، يقول لنا: “هذا أنت، وحيد، فكيف ستعيش؟”. بعضنا ينهار، وبعضنا يتشبث بما تبقى من الحياة. وهنا يكمن سر الفقد: هو اختبار، امتحان للروح، إما أن تتكسر، أو أن تُصقل.
تعلّمت أن الفقد لا يعني النهاية. صحيح أنه يسرق جزءاً من فرحنا، لكنه يفتح أبواباً أخرى لم نكن نعرفها. يجعلنا أكثر تقديراً للتفاصيل الصغيرة: ابتسامة عابرة، كلمة طيبة، لحظة صمت مع النفس. يعلمنا أن نستمتع بالحاضر، لأن الغد مجهول.
الفقد أيضاً يزرع فينا حكمة. نصبح أكثر إنصاتاً، أكثر هدوءاً، أكثر وعياً بأن الحياة هشة ولا تستحق أن نضيعها في صغائر الأمور. نصبح أكثر رحمة بالآخرين، لأننا نعرف ماذا يعني أن يختفي وجه كنا نحبّه، أن يغيب صوت كنا نستند إليه.
ولعل أجمل ما في الفقد، رغم وجعه، أنه يذكرنا بالباقي. يذكرنا بالله، وأنه وحده الذي لا يغيب، ولا يرحل، ولا يتركنا. وحين نرفع أعيننا إلى السماء، ندرك أن ما أخذ منّا، لم يضع، بل ذهب إلى مكان آخر، مكان أكثر رحمة، مكان نرجو أن نلتقي فيه من أحببنا.
الفقد جعلني أرى نفسي بوضوح. جعلني أكتشف أنني لست ضعيفة كما كنت أظن. صحيح أنني بكيت، وتألمت، وتمنيت لو أن الزمان يعود، لكنني أيضاً نهضت، وابتسمت، وواصلت. أدركت أن القوة ليست في أن لا نسقط، بل في أن نسقط وننهض مرة بعد مرة.
أحياناً، أحنّ إلى ما فقدت لدرجة أشعر معها أنني لن أستطيع المضي. لكن حين أتنفس بعمق، وأتذكر أنني ما زلت هنا، وما زلت أملك فرصة أن أحب من جديد، أن أعيش من جديد، أبتسم. الفقد لم يسرق كل شيء، بل سرق شيئاً واحداً وترك لي الباقي.
نحن لا ننسى من نفقدهم، لكننا نتعلم أن نتعايش مع غيابهم. نتعلم أن نبتسم ونحن نذكرهم، لا أن نبكي فقط. نتعلم أن نحملهم في قلوبنا، كجزء منّا، كذاكرة حيّة، كأثر لا يمحى.
الفقد، رغم وجعه، هدية متخفية. يعلّمنا أن الحب الحقيقي لا يموت، وأنه يبقى في قلوبنا مهما ابتعدت الأجساد. يعلمنا أن الزمن لا يمحو المشاعر، بل يعيد تشكيلها بطريقة جديدة، أكثر نضجاً، أكثر هدوءاً.
في النهاية، أقول: الفقد ليس هزيمة، بل بداية. بداية لفهم أنفسنا، بداية لرحلة أعمق مع الحياة، بداية لإدراك أن كل شيء زائل إلا وجه الله. الفقد يوجعنا، لكنه أيضاً يربّينا، يعلّمنا، ويصنع منّا نسخاً أقوى، وأكثر إشراقاً
تعليقات
إرسال تعليق